طباعة

دولة مغيبة

الجمعة 23/12/2016 05:11 م

مراد منير

مراد منير

دولة لا تتعامل مع الارقام، لاتطبق البحث العلمى فى حل المشكلات، بل تكسب جولاتها كلها عن طريق الاسلوب الانشائى والوصفى لحالة جيدة أو حالة سيئة، لكنها حين تتكلم بالأرقام تستعمل أرقاما جوفاء مضللة، تفتقد للدلالات والمؤشرات، دولة تراوغ مواطنيها ! لا تصارحهم بالحقيقة، ولا بصعوبة الوضع، أو وجوبية وحتمية تحمل المواطن لمواجهة الأزمات، تترك المواطن، وخاصة المقتدر، يعيش فريسة السفه الاستهلاكى، بل والنهم فى الانفاق الترفى حتى ولو على حساب المزيد فى عجز الموازنة وعلى حساب الأجيال القادمة وعلى حساب غيره من المواطنين الأقل حظا.

دولة تعالج أزماتها ومشاكلها كلها بأدوية محدودة ومحددة، أدوية حتى منتهية الصلاحية، الروشتة جاهزة ومكتوبة مسبقا، انها المسكنات ولابديل لها، فقدت المسكنات كل فعالياتها، لقد أدمن المريض وأضحى المسكن يؤلمه بدلا من أن يسكن الألم .

التحديات جسيمة ولكن ينظر لها بإستخفاف، احيانا لا ينظر لها، قد يكون تجاهل، او حتى عدم ادراك .

فلنأخذ مثالا حيا ولكن بدون تحيز له، قس على ذلك امثلة عديدة اخرى لا يمكن تغطيتها فى صفحة صغيرة او عدة صفحات، تحتاج لمجلدات ومراجع ضخمة لتدوينها !!


المثال الذى سنسوقة هو عن قانون الايجار القديم وكيفية معالجته ...


ملاك مظلومون منذ اكثر من 65 عاما، هم اصلا مستثمرون، استبيحت املاكهم واستثماراتهم فدعموا مواطنين مثلهم بل فى الغالب اكثر ثراءا منهم بشكل مباشر !!

الملاك يصرخون منذ أكثر من 65 عاما ولا مجيب !! تغيرت الأمور .. الظروف .. الأنظمة .. لا مجيب !!

قمنا بثورتين .. لا مجيب !! اصبحنا فى عهد رئيس جديد يسعى لتغيير كل الأوضاع للأفضل .. لا مجيب !! دستور جديد يرد للملاك حقوقهم المهدرة .. لا مجيب !!

والأن وبعد تشكيل مجلس للنواب فتعالت أصوات الملاك أكثر فأكثر، لا بأس سنسمح لهم بالصوت العالى ولكن ايضا .. لا مجيب !! انهيارات للمبانى بالجملة .. لا مجيب !! ارواح تزهق كل يوم .. لامجيب !! نزاعات تصل الى مرحلة القتل .. لا مجيب !! تهديد بتدويل الملف .. لا مجيب !!

ثروة عقارية مهدرة تقدر ب 4 ترليون جنيه حينما كان سعر صرف الدولار ب 8 جنيهات والآن فقد قارب للعشرين جنيها .. لا يعنينا ذلك شيئا !! انتهز باقى المستثمرون فى السوق العقارى غير المغضوب عليهم الفرصة وأعادوا تقييم أصولهم العقارية برفع قيمتها لتتناسب مع معدلات التضخم غير المسبوقة وتتوافق مع اسعار العملات الاجنبية المنطلقة بلا لجام بعد التعويم، بينما ينتظر ملاك الايجار القديم نفس الملاليم التى قد لا تصلهم حتى !! احدى شركات التطوير العقارى رفعت اسعار وحداتها بنسبة 31% دفعة واحدة بين ليلة وضحاها .. انطلقت اسهم الشركات العقارية فى البورصة كالصاروخ بينما الملاك المؤممة املاكهم لا يسمح لهم سوى بالمشاهدة فى صمت !!

ضرائب عقارية مفقودة تقدر بنحو 50 مليار جنيه سنويا ومثلها ضرائب على الدخل .. لا يخصنا !! استثمارات عربية وأجنبية قد تنهمر علينا فى حال الغاء هذا القانون اللعنة .. لا أحد يعبأ !! سوف نعيد تخطيط مدننا الى الأحسن .. سيكون ذلك فى صالح تحسين حياة المواطن والمناخ الاستثمارى بل وسينعكس مباشرة على زيادة ايرادات السياحة .. سوف نعيد توزيع الخريطة السكانية من جديد ونفرغ العاصمة المكتظة بالسكان والمدن ذات الكثافة السكانية المرتفعة الى المناطق الواعدة حيث الاستثمار والحياة الرغدة .. كل هذا لا يعنينا فى شئ !!

الرئيس المنتخب ينادى على الاصلاح على التغيير على نهضة تنموية شاملة على عدالة اجتماعية حقيقية، على تحويل مصر من شبه دولة الى دولة ودولة محترمة ايضا ولكن لا أحد مهتم !! لا احد يساعده .. الجميع مسجون فى موروثات قديمة وتابوهات صنعناها بأنفسنا وأصبحت من المقدسات .. كل تلك التماثيل والأصنام التى نعبدها هى من وحى الزمن الماضى .. صنعها رجال يسعون الى تحصين مصالحهم الشخصية قبل مصلحة المواطن .. صنعوها لتكرس لإستمرار الفساد والتربح غير المشروع .

الحكومة لا تعبأ بحجم الأزمة ولاتدرك تبعياتها، لا تتحرك للحل الا بعد ان توشك المشكلة على الانفجار، مثلها مثل كل المشكلات الأخرى يحب ان تتفاقم وتوشك على الانفجار قبل ان نتحرك بالحل !! وقتها يصبح الحل صعبا بل شبه مستحيل .. وزارة الاسكان مشغولة بمنافسة شركات القطاع الخاص فى الاستثمار العقارى، منكبة على دراسة كيفية تعظيم الربح ورفع اسعار الأراضى وإجراءات القرعة التى لا ترسو سوى على المحظوظين من كبار المضاربين !!

نواب شعب يشرعون حسب اهواؤهم الشخصية، تحكمهم مصالحهم قبل مصلحة الشعب، يتعاملون مع المشكلات بالمقترحات وليس بالدراسات والأرقام والإحصائيات، يتاجرون بمحدودى الدخل والفقراء ويخفون منفعتهم الشخصية وراء هؤلاء الفقراء الذين لا يعرفونهم ولا يكترثون بأمرهم شيئأ، يتسابقون فى الظهور على الفضائيات لتقديم الحلول ذات العدالة العاجزة بدلا من العدالة الناجزة، ففى مشكلة ضخمة مثل ملف قانون الايجار القديم بدلا من تصدى خبراء الإقتصاد والمتخصصين فى السوق العقارى بدراسة المشكلة وتقديم التوصيات بحيادية شديدة، نجد هؤلاء النواب يزايدون فى حلول عرجاء مضحكة، فمنهم من يطالب بزيادات ضئيلة كنسبة مئوية على الايجارات الهزيلة، ومنهم من يطالب بتحرير العلاقة بعد 10 سنوات، بينما يزايد نائب اخر ليقترح 15 سنة !! هؤلاء لايدركون ان عقارات الايجار القديم انتهى عمرها الافتراضى منذ زمن بعيد، وان انعدام الصيانة وسؤ الاستخدام جعلتها فى حال يرثى لها، وينهار الكثير منها كل يوم، حيث يوجد 70 الف عقار آيل للسقوط بالفعل بينما هناك 300 ألف عقار تعتبر الإقامة فيه نوعا من المخاطرة، كما انهم كنواب للشعب مسئوليتهم الأساسية هى حماية الدستور ومراعاة كل مواده عند اصدار اى تشريع جديد، بينما بتصريحاتهم العشوائية المستفزة على الشاشات علنا يهينون الدستور ويطيحون بكل مواده ارضا، بل يصل الأمر لإثارة بلبلة من شأنها التأثير السيئ على الاستثمار.

قام بوضع كل مدخراته فى بنايات جميلة وقدم خدمات جليلة للمجتمع وأمام أعينهم على الشاشات، فلا شك يؤدى ذلك لجذع وتخوف شديد من الاقتراب وضخ أى أموال فى بلد يبدو طارد للاستثمارات بمعنى الكلمة، ويخدم هؤلاء النواب ويزيد الطين بلة إعلام غير محايد وغير ملم بالملف الذى يتناوله ولايعبأ سوى بإفتعال الإثارة لجلب مزيد من المشاهدة وتحقيق مزيد من ايرادات تأتى من معلنين غير معنيين سوى بترويج سلعهم وخدماتهم على حساب وطن يتمزق ينهش فيه الجميع بلا رحمة .

تلك كانت إحدى المآسى وكيفية معالجتها بالتخبط والعشوائية بلا أى مهنية وبطريقة المحاولة والخطأ، وبالرغم من ضخامة المثال الذى سوقناه إلا ان عشرات بل مئات من الملفات تعالج بنفس العشوائية ونفس الإسلوب العقيم بل أسؤ، فإلى اى نهاية يأخذنا هؤلاء ؟! ولماذا لا يأخذون اسلوب السيد الرئيس فى معالجة المشاكل قدوة لهم ومثل حى ؟! لقد قام سيادته بمعالجة مشكلة الكهرباء وانقطاعها المستمر بمواجهتها ومصارحة الشعب وتكلم الرجل عن أبعاد المشكلة وحلولها بالأرقام الدقيقة .. تكلفة وعائد وجدول زمنى محدد، فهل ينتظرون حلول الرئيس لجميع المشاكل بنفسه ؟؟!!

بداية الإصلاح هو أن يعى المسئولين ومتخذى القرار أن قراراتهم العشوائية دون دراسة أو استخدام لإسلوب البحث العلمى، ودون توافر قواعد للبيانات دقيقة ومعالجة المشاكل بعيدا عن الخبراء والمتخصصين، هو استمرار للدولة المغيبة والتى نتمنى أن تفيق وتنتفض لتلحق بدول تتسابق محققة انجازات لا نحلم بها .