طباعة

"بول بيتي" يكتب صفحة مجد للأدب الأمريكي بعد فوزه بـ"مان بوكر"

السبت 29/10/2016 10:03 ص

أ.ش.أ

الأمريكي بول بيتي

استحق الأمريكي بول بيتي أهم جائزة أدبية للإبداع المكتوب بالانجليزية هذا العام وهي جائزة "مان بوكر" بروايته "الخيانة" التي تتجلى فيها قدرة "التوليد الصادم للصور عبر مضمون إبداعي يجمع ما بين السرد والشعر لمبدع لا يشبه إلا نفسه"، وإبداعه "يشحن شيئا ما في القاريء"، بقدر ما كتب صفحة مجد للأدب الأمريكي.

ومع أنها قد تصنف قصة طويلة، فإن بول بيتي لم يجانب الصواب عندما أوضح أن هذا العمل يصعب تصنيفه في خانة بعينها؛ ليشير بذلك إلى حقيقة باتت واضحة لكل ذي عينين في المشهد الأدبي العالمي، ألا وهي أن مسألة التصنيفات الصارمة قد ولى زمانها بعد أن تداخلت الأنواع وتشابكت ما بين نثر وشعر وغناء وأصوات متعددة.

وقد تكون تلك الحقيقة ما بعد الحداثية في الزمن الأدبي العالمي مفسرة على نحو ما لمنح جائزة نوبل في الآداب هذا العام لموسيقي وكاتب كلمات غنائية مؤثر في الثقافة الشعبية الأمريكية، وهو الفنان الأمريكي بوب ديلان بكل ما أثاره هذا القرار من جدل ودهشة بل وكثير من الاستنكار.

ولأول مرة يتوج "العم سام" مرتين في عام واحد وبفاصل أيام قليلة بأهم جائزتين أدبيتين في العالم؛ ومع أن جائزة مان بوكر من المنظور التاريخي لم تذهب كثيرا لهؤلاء الكتاب الذين تتسم إبداعاتهم بحس فكاهي، فقد ذهبت هذا العام للأمريكي بول بيتي الذي لا يمكن إنكار حسه الفكاهي وسخريته السردية اللاذعة إن لم تكن "جارحة ومدببة غير أنها تشكل إضافة إبداعية مفيدة للأدب وللثقافة الشعبية لبلاده".

ولعل سر بول بيتي يكمن في مقولة كانت والدته تداعبه بها، وهي "إنه لا يحب إلا الأفلام التي لا يراها أحد ولا يحدث فيها شييء"، بينما يرى هو أنه "عندما لا يحدث شييء فلا بد أن شيئا آخر يحدث"! إنه يحب "الصمت الفظ"، كما أنه يحب أسماء ثقافية خالدة في تاريخ الأدب الإنساني مثل كافكا وتولستوي.

ولن يكون من قبيل المبالغة القول بأن بول بيتي "أحد أفضل الأصوات الابداعية للأدب الأمريكي الأسود"، فيما يقف الفائز بجائزة مان بوكر هذا العام مع القائلين بأنه "لا توجد مطلقات في الحياة الإنسانية النسبية بطبيعتها".

وفي العام الماضي وضع مارلون جيمس اسم جامايكا الواقعة في منطقة الكاريبي على خارطة الأدب العالمي بفوزه بجائزة مان بوكر التي ينظر لها كثير من النقاد باعتبارها الجائزة التي تأتي مباشرة بعد "أم الجوائز الأدبية العالمية"، وهي جائزة نوبل في الآداب التي كانت قد ذهبت في ذاك العام للكاتبة والصحفية البيلاروسية سفيتلانا اليكسفيتش.

ولعل الظاهرة المشتركة عامئذ على المستوى الفني في جائزتي نوبل ومان بوكر أنهما منحتا لكاتبة وكاتب يشتركان في فكرة "تعدد الأصوات داخل ملحمة لتشكل في نهاية المطاف صوتا متسقا"، كما أن كلاهما لا يبدو في موقف المؤيد للنظام الحاكم سواء في بيلاروسيا أو جامايكا، بينما الظاهرة المشتركة هذا العام أن الجائزتين الكبيرتين ذهبتا لمبدعين أمريكيين ومؤثرين في الثقافة الشعبية الأمريكية.

وبول بيتي البالغ من العمر 54 عاما والذي أطلق أخيرا "ضحكة المنتصر"، قد يحق له أن يطلق هذه الضحكة الممزوجة بشيء من السخرية لأنه لم ينس بعد أن 18 ناشرا رفضوا نشر عمله، فيما سيعرف هذا العمل الإبداعي الساخر "الخيانة" الطريق لقوائم أعلى مبيعات الروايات بعد أن توج بجائزة "مان بوكر".

وتقول شارلوت هيجينز في صحيفة "الجارديان" البريطانية إنه من حسن طالع بول بيتي الذي بات أول أمريكي يفوز بجائزة مان بوكر، أن قواعد منح هذه الجائزة شهدت تعديلات جوهرية منذ ثلاث سنوات بحيث أصبح من حق أي كاتب مهما كانت جنسيته أن يظفر بها طالما أنه يكتب إبداعه الروائي بالانجليزية وتنشر إبداعاته في بريطانيا.

وحسب ما أعلنته مؤسسة جائزة بوكر في هذا السياق المتعلق بتغيير قواعد منحها، فإن المؤسسة بذلك "تعانق اللغة الانجليزية وهي تتدفق عفية بحرية مفصحة عن مواهبها وحيويتها ومجدها أينما كان"، معتبرة أنها بتلك التعديلات قد "أسقطت قيود الجغرافيا والحدود الوطنية".

وفيما ثارت مخاوف من تهميش الأصوات الروائية في مجموعة الكومنولث لحساب الأدب الأمريكي عند منح جائزة مان بوكر بقواعدها الجديدة، فإن هذه المخاوف قد تتزايد بعد أن فاز الأمريكي بول بيتي بالفعل بهذه الجائزة التي قد تثير المزيد من الشهية الأمريكية لاقتناصها مجددا في الأعوام القادمة.

وفيما تبلغ القيمة المادية لجائزة مان بوكر 50 ألف جنيه استرليني، فإن جائزة المان بوكر تشكل بدورها كنزا تتسابق عليه دور النشر بصورة محمومة، فيما تطمح كل منها بالفوز بالجائزة على أمل زيادة مبيعاتها بصورة كبيرة من الرواية الفائزة.

وهذا ما يتوقع حدوثه هذا العام بعد الإعلان عن فوز رواية "الخيانة" لبول بيتي، فالقيمة المادية لجائزة المان بوكر تتراجع كثيرا أمام ماتنطوي عليه هذه الجائزة من شهرة لصاحبها ومبيعات عالية لروايته الفائزة بل انها تكون أحيانا "الباب الملكي نحو أم الجوائز الأدبية العالمية"؛ جائزة نوبل، كما يتجلى في حالة أليس مونرو التي كانت قد فازت بجائزة مان بوكر عام 2009 قبل أن يتوقف قطار نوبل عام 2013عند محطتها الابداعية.

كما ان هناك من يرى أن القواعد الجديدة والميسرة لجائزة المان بوكر تضخ ابداعا جديدا وتجدد فعلا شباب الجائزة التي طالتها من قبل انتقادات مريرة رأت انها منحت لأعمال دون المستوى، بل ان بعض المتحمسين لهذا التوجه الجديد ذهبوا الى ان المان بوكر يمكن الآن ان تنافس جائزة نوبل للآداب من حيث الأهمية والثقل والمكانة واتساع رقعة التنافس وعدد المتنافسين.

أما كلير ارميستيد الناقدة الثقافية في صحيفتي "الأوبزرفر" و"الجارديان" والتي التقت بول بيتي فتقول انه في حقبة دونالد ترامب وما يوصف "بصعود الترامبية" يشكل فوز كاتب امريكي اسود بجائزة مان بوكر "اضافة موحية ومبهجة لقائمة ابطال الابداع بالانجليزية".

وإذا كان دونالد ترامب قد أثار جدلا ببعض تصريحاته العنصرية بشأن العلاقات العرقية في المجتمع الأمريكي، فرواية "الخيانة" التي وضعت صاحبها في "قاعة فرسان بوكر"، تركز على تلك العلاقات وتتطرق ابداعيا لحركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة.

وبول بيتي يميز ما بين "التمييز العنصري المباشر والتمييز العنصري غير المباشر"، فيما تحوي روايته عبارات دالة في هذا الاتجاه على لسان الراوي الذي تحاور ذات مرة مع والده وذهب إلى أنه لا توجد تفرقة عنصرية في الولايات المتحدة وانما المشكلة تتمثل في أن الأمريكيين المنحدرين من أصول افريقية لا يريدون تحمل المسؤولية حيال أنفسهم.

ويستفز هذا الرأي الأب، فيذهب مع الابن في رحلة ببلدة تقع بولاية مسيسيبي "ليشاهد ويشهد بأم عينيه التمييز العنصري الخالص حتى من جانب نساء عابثات لاهيات في بلدة بائسة تحط بها الغربان وسط حقول القطن"، ولتتوالى المشاهد الساخرة في دوامة البحث عن الهوية العرقية ولينسج بول بيتي نصا خيوطه أمريكية بامتياز من حيث الصور والبنية والأجواء والايحاءات والايماءات.

وإلى جانب "طابعها الأمريكي القح"، ترى كلير ارميستيد ان لرواية بول بيتي تأثيرا فتاكا في سخريتها السوداء من كل المسلمات في المجتمعات المتعددة الأعراق ونقض قواعد الإذعان للأعراف في تلك المجتمعات مع خيوط عدمية عالمنا المعاصر الباحث بلا جدوى عن المعنى.

وهكذا يعمد بطل الرواية الذي اختفى بيته في خضم عملية ترميم وتحديث للحي- ترمي في الواقع لجذب الأغنياء واقصاء الفقراء- إلى إحياء مدارس تكرس التمييز العنصري وممارسات العبودية وطقوس الاسترقاق كرد فعل لما يعاني منه وكسبيل لاستعادة الاحترام للذات.

وكاد صاحب "الخيانة" وهي رابع روايات بول بيتي أن يحرم من التنافس على هذه الجائزة المرموقة بعد أن واجه صعوبات جمة في نشر روايته التي لا تخلو من جموح مبهج وغنائية شاعرية بالمملكة المتحدة، وبالكاد تمكن من اقناع احد الناشرين باصدارها وللمفارقة أو المصادفة السعيدة، فإن الناشر الذي قبل نشر الرواية هو ذاته الذي نشر الرواية التي فازت في العام الماضي بجائزة مان بوكر، وهي رواية "تاريخ موجز عن سبع جرائم قتل" للجامايكي مارلون جيمس والذي كان قد واجه بدوره صعوبات جمة في النشر.

والرواية التي تتمحور حول شاب أسود يسعى لاستعادة العبودية والفصل العنصري في المدارس وأوجه الحياة الاجتماعية بمنطقة "ديكنز"، وهي احدى ضواحي لوس انجلوس وصفتها أماندا فورمان رئيسة لجنة جائزة المان بوكر بأنها "نجحت في تعرية كل المحظورات وتناسب بذهنيتها الفظة الفجة عصرنا هذا".

ولم يخف الفائز بأهم جائزة أدبية للإبداع الروائي المكتوب بالانجليزية هذا العام شعوره "بالاستغراب" لهذا التتويج وهو ما تجلى في مظهره المرتبك أثناء احتفالية منحه الجائزة مساء الثلاثاء الماضي في مدينة لندن، فيما طال هذا الارتباك حتى تصريحاته بشأن روايته المتوجة بالمان بوكر.

ففي البداية اعتبرها رواية "صعبة القراءة"، غير انه عاد بعد أن تمالك نفسه من "صدمة الفوز" ليقول إنها "رواية جيدة" وأنه "أحب هذا العمل" ولعله اقتنص الفرصة أيضا "ليثأر" من هؤلاء الناشرين الذين رفضوا نشر الرواية بقوله انهم لم يستوعبوا جيدا طابعها غير التقليدي وبنيتها غير المعتادة وسردها الذي يثير بمدهشاته نوبات من ضحك كالبكاء أو بكاء كالضحك!

وضع بول بيتي يده على نقطة هامة في عالم النشر عندما قال ان بعض الناشرين الذين أحجموا عن نشر روايته اعترفوا له بأنهم "قد يحبون بعض الروايات ويشعرون بإعجاب حيالها غير أنهم لا يقدمون على نشرها"، وهي مسألة قد لا تكون بعيدة عن اهتمامه "بتوسيع نطاق الممكن أو المسموح به في عالم النشر".

ولئن قال بول بيتي الذي يقطن في لوس انجلوس في غمار ارتباكه ان كتابة هذه الرواية كانت "عملا شاقا" وسيجدها القراء صعبة القراءة ويمكن لكل قاريء ان ينظر لها من منظور مختلف فقد تعيد مقولته الصريحة عن أنه "يكره الكتابة" للأذهان ما قاله بعض المبدعين العرب الذين لا يقلون صراحة عن هذا الكاتب الأمريكي ومن بينهم المبدع السوداني العظيم الطيب صالح عندما باح ذات مرة بأنه "لا يحب الكتابة كثيرا".

وواقع الحال أن رواية "الخيانة" ليست بالرواية التي تبعث الراحة في نفس القاريء حتى من أول صفحة عندما يجلس الراوي على "مقعد غير مريح" وهو ينتظر محاكمته في قاعة المحكمة العليا.. وها هو بول بيتي يقول: "نادرا ما أكون الكاتب المريح وقد يبعث هذا القول شيئا من الحزن غير أنها الحقيقة".

ويمتد هذا الخطاب الصريح إلى عزوف واضح عن "تقسيم الأدب لأنواع ذات حدود صارمة"، ومن ثم فهو لا يتحمس مثلا لوصف روايته "الخيانة" بأنها تنتمي للأدب الساخر لأن مثل هذه الأوصاف أو النعوت القاطعة قد تنطوي على تمويه للحقائق وتشويش للجوهر وتغطي مثلا على اللحن الحزين في الرواية نفسها الحافلة ايضا بكثير من اللعان والسباب.

وأبدى بول بيتي تحفظا على وصف عمله هذا بأنه ينتمي لنوع "الرواية"، أو "القصة"، لأن هذا العمل كما يقول يحوي بعض الشعر، و"بعض القصائد التي سرقها من ذاته"، كما أنه لا يخلو من جهد بحثي وها هو يعمد للدعابة أو السخرية عندما يقول أنه لم يقبل بوصف هذا العمل بأنه "رواية" إلا بعد أن فاز بجائزة مان بوكر.

ويكشف صاحب "خيانة" عن تأثره بالكاتب الايطالي الراحل ايتالو كالفينو ويقول ان رواية كالفينو "مدن غير مرئية" كانت تتقافز في رأسه اثناء الكتابة، فيما يبدو بول بيتي منحازا لمفهوم التداخل بين الأنواع والنصوص العابرة للأنواع فضلا عن فكرة الاستعارات الابداعية.

وبول بيتي معجب كذلك بالأدب الروسي فضلا عن الأدب الياباني وهي مسألة قد تبدو غريبة لكاتب امريكي منحدر من أصول افريقية، فيما يقول إن سر هذا الحب قد يكون قد ورثه عن والدته الممرضة التي كانت تحب الثقافة الآسيوية.

وعلى أي حال، فالتكوين الثقافي للفائز بجائزة مان بوكر هذا العام هو تكوين يحوي بعض الجوانب التي تبدو متعارضة أو غير متسقة في اتجاه واحد بالنسبة لهؤلاء الذين اعتادوا على التقسيم والفصل الصارم بين أنواع الإبداع.

ويعمل بول بيتي بتدريس الكتابة الابداعية في جامعة كولومبيا ويسعى للاستفادة من دراسته لعلم النفس في مرحلة سابقة ببوسطن في التواصل مع طلابه ويستخدم تعبيرا غاية في الدقة وهو "أهمية اكتساب مهارة الانصات للذات وهي تسمع"، وهي مهارة تختلف وقد تكون أهم في رأيه من "الانصات للذات وهي تفكر"، أو "الانصات للذات وهي تتحدث".

وهذا النوع من المهارات كان مفيدا لبول بيتي في "قراءة أعماله بعمق وتفسير العالم وتأويله"، فيما يوصي طلابه من دارسي الكتابة الإبداعية في جامعة كولومبيا بالسعي للتفرد وعدم محاكاة أي كاتب حتى لو كان جابرييل جارثيا ماركيز، و"أن يبحث كل منهم عن أسلوبه".

انه المتفرد بول بيتي الذي كتب صفحة مجد للأدب الأمريكي هذا العام برواية "الخيانة" التي قد تبدو بمثابة "رحلة صعبة وعرة"، لكنها تمنح القاريء الكثير من مدهشات ومتعة وطاقة الإبداع.. إنه صوت الأدب الأمريكي الأسود الذي يرد على كل دعاوى العنصرية بمجد حققه للعم سام هذا العام! مبدع أصيل يحق له ان يزهو بايقاعات ابداعاته وصوره التي يراقصها ويضاحكها ويبكيها فنضحك ونبكي معه على حال الإنسان المعاصر ونجد عزاءا للجرح النازف.