طباعة

ومازال البحث جاريًا عن القوة!

الثلاثاء 26/02/2019 12:05 م

اللواء محمد عبد الواحد

يُعتبر «جوزيف ناي» أول مَن صاغ مفهوم القوة الناعمة في صورة نظرية مقنعة ومُحكمة البناء، ولكن قبل أن يعلن «ناي» عن نظريته ظهرت القوة الناعمة عبر التاريخ الإنساني في العصر القديم من خلال كتابات الفلاسفة أمثال «كونفيشيوس وسقراط»، أو من خلال انجذاب الناس إلى الأديان.

إلا أن أول ظهور للنظرية كان في القرن العشرين عبر الفيلسوف «جرامشي» في مؤلفاته المهمة رسائل السجن، والذى طرح خلالها فكرة الهيمنة الثقافية، وأهمية التفريق بين (سيطرة الدولة) و(هيمنة الثقافة).

وأكد على أن الثقافة متعددة المصادر ومتنوعة التأثيرات بدءا من المدرسة ومرورا بالمؤسسات الدينية وانتهاء بدوائر المال والإعلام، والتي تستطيع أن تخلق صورة جيدة لدى العامة عن النخبة الرأسمالية بهدف السيطرة على عقول هؤلاء وضمان عدم خروجهم عن سياق المجتمع الرأسمالي.

ويدلل «جرامشي» على أن الفعالية التاريخية تدور حول فكرة واحدة هى الهيمنة، والهيمنة شيء مختلف عن السيطرة.

ويرى «جرامشي» أن القوة المركزية في المُجتمع التي تحرك الأفراد وتفرض سيطرتها، هي قوة الثقافة أكثر من كل شيء، وأكد أن الهيمنة الفكرية والثقافية هي الأهم، شريطة أن يكون هناك نظام فكري وثقافي يجذب نظام فكري معين.

كما أنه يرى أن هيمنة الرأسمالية لا تُبنى على القوة والمال والسلطة فحسب بل على عامل القبول الذي تكونه ثقافة الطبقة الحاكمة في أذهان الناس.

إذا أرادت الدول أن تحقق تنمية اقتصادية؛ فيجب عليها تحقيق التنمية الاجتماعية والثقافية أولاً، وإذا كان التعليم يحظى بمكانة بارزة في أدبيات التنمية الثقافية؛ فغالبًا ما يكون ذلك، لا من أجل التعليم ذاته، ولا من أجل نشر المعرفة العلمية وتطوير الثقافة وتحديث العقل والذهنية؛ بل إنما - كذلك - من أجل ما يُنسب للتعليم من دور أساسي في التنمية الاقتصادية، لأن التعليم هو الذي يُعِدُّ الأطر ويعد الكوادر المؤهلة والبحث العلمي وكيفية تحليل آليات السوق.

كما أن التنمية البشرية لا تكتسب معناها الحقيقي إلا إذا كانت تضم في محتواها البُعد الثقافي، والذي يستطيع أن يحدث تفاعلات داخلية تؤدي إلى التداخل والتكامل بين التنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية، وأيضًا تداخل وتكامل بين ما هو أصيل متجدد، وحديث يتأصل في جميع مجالات الحياة.

وبالتالي فإن التنمية الثقافية أحد محاور البناء للتنمية الاقتصادية، وبالتالي - أيضًا - لا يمكن تحقيق تنمية اقتصادية بدون تنمية ثقافية.

ولا شك أن التنمية الثقافية لها أكبر الأثر في التنمية الشاملة بكافة جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما أنها تهدف إلى التوظيف الجيد والفعال للموارد البشرية والمادية والفكرية والعلمية والتكنولوجية، وبالتالي يجب على المُجتمعات ضرورة دمج ثقافة التكنولوجيا ضمن منظومة الثقافة السائدة وعدم الفصل بينهما حتى لا تصبح عبئًا علينا، كما يجب التعامل مع مفهوم «الأصالة والمعاصرة» على أنه مفهوم متكامل يكمل كل منهما الآخر وليس منفصلَيْن.

ولذلك يجب رفع الوعي العام للمواطنين ومحو الأمية الثقافية وخلق وسيط في عصر التكنولوجيا لتقريب وجهات النظر بين الأصالة والحداثة، والربط بينهما، وخلق قناعة تامة للمجتمعات تؤكد على أن أية نهضة علمية ثقافية لا تتطلب زمنًا طويلاً، مع عرض أمثلة لدول حققت تقدمًا في سنوات قليلة مثل اليابان والصين وماليزيا، فضلاً عن تصحيح المفاهيم المغلوطة عن التكنولوجيا والعلوم الحديثة والاستخدام الجيد للإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي.

كما يجب أن يُربَّى الإنسان منذ طفولته المبكرة على التعايش والتعامل فكريًّا وعلميًّا وليس سلوكيًّا واجتماعيًّا فقط مع هذا النمط الجديد من منهج العصر المليء بآلات التكنولوجيا والعلوم الحديثة حتى يستطيع أن يتكيف مع كل ما هو جديد ويتعايش مع عصره حتى يستطيع أن يحقق ذاته.

ولكن لكي تتم أية تنمية ثقافية في المجتمع، يجب التركيز على ثلاثة محاور، وهي:

1ـ محور البناء الفكرى والعقائدى.
2ـ محور البناء الفنى والأدبى.
3ـ محور البناء العلمى الصرف.

ويتفق الباحثون والمهتمون بالعلاقات الدولية على أن القوة هي الحاكم الأساسى للعلاقات بين الدول، وقد اختلف تعريف القوة بين الأكاديميين والباحثين نظرًا لتعقيد المفهوم وطبيعته المركبة، ويمكن تعريفها على أنها القدرة على التأثير في سلوك الآخرين للحصول على النتائج المرغوب فيها، وقد عُرِّفت القوة أيضًا على أنها علاقة التبعية والطاعة من جانب وعلاقة السلطة والسيطرة من الجانب الآخر، وذلك بالإقناع أو بالمكافأة أو بالعنف والإكراه، فإذا فشل الإقناع؛ نستخدم المكافأة، وإذا لم ينجح ذلك؛ فغالبًا نستخدم القوة العنيفة.

وتُعتبر قوة الدولة من العوامل التي يعلق عليها أهمية خاصة في ميدان العلاقات الدولية، باعتبار أن هذه القوة هي التي ترسم أبعاد الدور التي تقوم به الدولة في المجتمع الدولي وتحدد إطار علاقاتها بالقوى الخارجية في البيئة الدولية، وأن امتلاك عناصر القوة لا يكفي حتى تكون الدولة مؤثرة، فلابد من استخدام سياسات فعالة لاستخدام القوة.

والقوة الناعمة، هي القدرة على استثمار عناصر الجذب الحضارية والثقافية للدول دون اللجوء إلى الإكراه، وذلك بهدف الدعاية السياسية والاقتصادية والإقناع ونشر تلك الدعاية عبر الآداب والفنون، وأحيانًا الدبلوماسية الرشيقة.

كما أن للقوة الناعمة أثارها في التنمية الاقتصادية عبر الترويج للاقتصاد المحلى ودعم الاستثمارات، وتنشيط التنمية السياحية، وذلك من خلال تسليط الضوء على الإنجازات العلمية والفنية والثقافية والاقتصادية والترويج لها.

وقد نجحت بعض الدول في الترويج لسياحتها من خلال الوصول إلى شرائح واسعة من السياح الأجانب عبر الأفلام والمُسلسلات.

وفى النهاية، نستطيع أن نؤكد على أن القوة الناعمة تستطيع أن تحقق ما لا تحققه القوة الصلبة، فأغنية وطنية جاذبة وناجحة قد تكون أكثر تاثيرًا من قوة السلاح، وأكثر اقناعًا من خطب سياسية، وعمل درامي تتناول فكرته التسامح والحب وقبول الآخر، يستطيع أن يُذيب الفوارق العرقية، ويحل مشاكل التجانس والتعايش سواء داخل المجتمع الواحد أو بين المجتمعات بعضها البعض.

ولم يَعُد استخدام القوة الناعمة في تنفيذ السياسة الخارجية للدول لتحقيق مصالحها مقتصرًا على الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية فحسب؛ بل امتد هذا المفهوم وتم تطبيقه في العديد من دول العالم ضمن سياستها الخارجية، ومع نجاح التطبيق السليم لمفهوم القوة الناعمة أصبح محل اهتمام الدوائر الأكاديمية وصناع القرار حول العالم.

ولخص «جوزيف ناي» أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد ومساعد وزير الدفاع الأمريكي للشئون الأمنية في حكومة بل كلينتون، وكان رئيسًا لمجلس الاستخبارات الوطني الأمريكي، مفهوم القوة ببساطة على أنها إمكانية التأثير على الآخرين لتحقيق ما نريد، فيمكن إجبار الآخر على ذلك ويُسمى ذلك «بالعصا» أو أن نغريهم بالمال ويُسمى «بالجزرة» وبإمكاننا أن نجذبهم لصفنا ونقنعهم وهذا يسمى «بالقوة الناعمة» «Power Soft»، وبالتالى فإن العصا والجزرة قوة «صلبة» «Hard Power»، والجذب والإقناع «قوة ناعمة».

وتعتمد القوة الناعمة أساسًا على تغيير رغبات الآخرين، وتجعلهم يريدون ما تريده أنت، وبالتالي؛ فإن القوة الناعمة سلاح مؤثر يُحقق الأهداف عن طريق «الجاذبية» و «الإقناع» بدل الإرغام ودفع الأموال، كما أن القوة الناعمة لا يُمكن اختزالها في الثقافة فقط، بل لها موارد أخرى يتم اختيار الجاذب منها، وتتمثل موارد أو أدوات القوة الناعمة فيما يلي:

1 – ثقافة المجتمع (البعد الجاذب من الثقافة).
2 – القيم السياسية (المقبولة داخليا وخارجيا).
3 – السياسة الخارجية (بمقدار شرعيتها).
4 – الموارد الاقتصادية والعسكرية (من خلال قنوات التعاون والتدريب أو التوظيف في أغراض إنسانية كالكوارث الطبيعية وغيرها).

وتتحقق القوة الناعمة بطرق مباشرة تتمثل في (الإقناع والدبلوماسية والكاريزما للقيادات.. إلخ)، أو بطرق غير مباشرة من خلال خلق البيئة المساعدة على الاقناع والجذب.

كما أن جدوى القوة مرهون بالمصداقية في الإعلام، خاصة مع تطور تكنولوجيا الاتصالات وتنوع مصادر الأخبار وتنافسها بقوة تجعل المتلقى يبحث دائما عن الأكثر مصداقية حتى ولو كان خارج حدوده الجغرافية، وكلما كان عهد المتلقِّي بمصداقية الإداة الإعلامية أطول فترة ممكنة كان ذلك في مصلحة القوة الناعمة. وبالتالى لا يمكن اختزال القوة الناعمة في الثقافة فقط.

وقد تطور مفهوم القوة الناعمة لكي يشمل القوة الذكية، وهي تُعتبر مزيجًا من استخدام كل من القوة الصلبة والناعمة معًا في العلاقات بين الدول.

ويمكن من خلال القوة تحقيق ما يلي:

1 – دفع الآخرين للقيام بما لا يرغبون في القيام به.
2 – جعل الآخرين يضعون أولوياتهم وتفضيلاتهم لما تريد الدولة.
3 – القدرة على خلق وتشكيل إدراك وعقائد للآخرين دون إدراكهم إنك تفعل بهم ذلك.

ولاشك أن الثقافة الفرنسية واحدة من أبرز دعائم هذه القوة الناعمة، فتمتلك فرنسا شبكة هائلة من المُنظمات المعنية بتعليم اللغة الفرنسية حول العالم، كما تعمل على توسيع وتحديث مدارسها الفرنسية في كافة بقاع الأرض حتى وصل عددها إلى 459 مدرسة تتمتع بسمعة ممتازة باعتبارها معقِلاً لتخريج النخب الوطنية، ويُعد إنتاج العطور وتصميم الأزياء ومواد التجميل والمجوهرات علامات فارقة في الحضور الناعم الفرنسى، فضلاً عن القوة الفكرية الكبيرة التي كانت ولا تزال تمثلها فرنسا.

وقد بدأت الحكومة الفرنسية موخرًا في تطوير أدواتها الناعمة فانتهجت سياسة جديدة تدور حول «اقتصاد اللا ماديات»، أو «رأس المال الرمزى»، وهو اقتصاد يعتمد على القوه الناعمة، ويستند إلى التراث الفني والجمالي الفرنسي المُتجسد في متاحفها العملاقة والأنيقة مثل اللوفر وغيرها، وكذلك الإرث التعليمي المتطور على غرار «السوربون» والمدرسة العُليا الفرنسية.

وقد تجلت تلك السياسة في افتتاح الرئيس الفرنسى لمتحف «اللوفر أبوظبى» على أرض جزيرة السعديات في إمارة أبوظبى، وفى كلمته المسهبة استخدم جملة (الجمال سوف ينقذ العالم) وهى جملة «راسكولينكوف» في «الجريمة والعقاب» للروسى «فيودور دوستوفيسكى»، وكان الجانب المالى مقابل هذا التصدير للجمال؛ 525 مليون دولار تدفعها دولة الإمارات المتحدة مقابل استخدام اسم «اللوفر»، و750 مليون دولار مقابل إعارة 130 عملاً فنيًّا لمدة 30 عامًا، وبالتالي أصبح الفن والإبداع جسرًا جديدًا من نوعة لتحقيق أهداف اقتصادية.

إن إحدى الإشكاليات هى أنه يمكن لدولة أن تمتلك «موارد قوة» أكثر من الآخرين، فمثلاً الدولة المصرية لديها إمكانية أكبر من الآخرين لإنتاج القوة الصلبة والقوة الناعمة، لكن دائمًا ما تخفق في تحويل تلك القدرة إلى مخرجات ونتائج إيجابية، وهذا ما يُسمَّى بمشكلة تحويل القوة واستثمارها، فيجب البحث عن الفاعلية في أدائها وتحويل الطاقة المهولة إلى نتائج فعالة أو النتائج التي تريدها.

وفي ضوء احتلال العلاقات وقوة الحضور والنفوذ الدولي والإقليمي مكانةً خاصة في تفكير القيادة والنخب السياسية المصرية؛ فيمكن التركيز على تطوير العلاقات الثقافية في إفريقيا من منطلق إعلام الشعوب الإفريقية والتأثير عليها، ويُسمى ذلك أحيانًا بالدبلوماسية العمومية.

وتستخدم هذه النوعية من الدبلوماسية، أدوات عدة منها الثقافة والتعليم والتربية والفنون ووسائل الإعلام وغيرها، على أن يعمل الكل من خلال منظومة استراتيجية تهدف إلى تعزيز جاذبية الإبداع المصرى المعاصر وإضفاء القيمة على الموارد اللامادية.

ولذلك يجب على الدولة المصرية البحث في ثقافتها وتاريخها وأخذ الجاذب منهما وكذلك الملائم الجيد والمقنع من كافة موارد الدولة واستغلاله وتوظيفه أفضل توظيف، لأن وجود الموارد أمر مهم وضروري، إلا أن جدواه محدودة إن لم تسانده قوة ناعمة تعتمد على الجذب والإقناع، كما يجب فهم عناصر القوة المصرية المعاصرة والاستفادة منها.

تمتلك الدولة المصرية مقومات مقبولة لاستعادة وتفعيل قوتها الناعمة وتوظيفها وإدارتها واستثمارها ليس في نطاقها الإقليمى فحسب، ولكن في العالم أجمع وذلك من منطلق التراكمات التاريخية والحضارية وجاذبيتهما سواء للغرب المولع بالحضارة الفرعونية القديمة، أو للدول الإفريقية التي تتفاعل فيما بينها من خلال روابط تاريخية عميقة.

فقد ألهمت أوبرا عايدة الكثير من الموسيقيين وكتاب المسرح لوضع أعمال مستوحاة من تاريخ مصر القديم، ولم تكن أوبرا عايدة الأولى التي تستلهم تاريخ مصر القديمة في أحداثها المسرحية، فهناك العديد من الأعمال العالمية التي تستلهم سحر وجاذبية التاريخ المصرى القديم.

كما أن وجود نقوش عديدة للآلات الموسيقية المصرية القديمة على جدران المعابد المصرية جعل العالم شغوفا لسماع هذه الموسيقى الفرعونية ومن تلك الآلات ومعرفة أسرارها، كما أن قصة الحب التي ربطت عايدة الحبشية بقائد الجيش يمكن أن تستلهم الدراما المصرية منها قصصًا وأعمالاً درامية كثيرة توظف بطريقة منضبطة لتُذيب الفوارق بين مصر وإفريقيا ثقافيًّا خاصة إثيوبيا، وذلك على غرار الفيلم الهندى «جوداه أكبر»، وكيف تم توظيفه بطريقة جاذبة لمحاولة التقارب ووقف الصراعات التاريخية بين الهندوس والمسلمين من خلال قصة الحب الشهيرة في القرن السادس عشر بين إمبراطور المغول المسلم «جلال الدين أكبر»، وابنة ملك الهندوس.

-----------------------------------
هذا المقال تم نشره في مجلة "أكتوبر" القاهرية، وموقعها الإلكتروني، يوم 25 فبراير 2019م، للسيد اللواء، محمد عبد الواحد، الخبير في شؤون الأمن القومي، والمتخصص في الشؤون الأفريقية، ووجدت "بوابة المواطن" الإخبارية إعادة نشره لأهميته وأهمية الرؤية التي يتضمنها في موضوعاته التي احتواها المقال، مع استلام مصر لرئاسة الاتحاد الأفريقي، واستعدادها لاستضافة مؤتمر الشباب الأفريقي في مارس المقبل.